DE
log-11-02-24-mod.jpg
pers.jpg
previous arrow
next arrow

Programme de bourse d'étude de la FAO                                         Programme annuel de bourses roumain                                         Annonce importante aux utilisateurs de l’email professionnel de l'université                                         Cyber Championnat international                                         Appel d’offre pour auditeur externe du projet CI-RES

المعرفة و الارتياب

 

Titre:المعرفة و الارتياب

Auteur:BelagrouzAbderrezak 

 

 

Préambule

قُرئ فريدريك نيتشهNietzsche قراءات مكثّفة وتُأُول تَأَوُّيلاَت مُتَصارعة؛ والأدهش أن هذه التَّأوُّلات تَنْطَلق جميعها من نصّ نيتشه الذي لا يتقدّم إلينا في وحدته إلا على صعيد الإسم، وداخل هذا الاسم مُسَاءَلات نقدية كبرى وبرامج تشريعية تراهن على الكَوْنِ في مستوى التّحدّيات التي يقتضيها رِهان التَّفلسف في كيفية استبصار المخارج واستعادة الدَّهشة الفلسفية من جديد بعد هيمنة حقب الأفلاطونية اللاّغية لأيّ أفق فلسفي خارج أفق المثال-الجوهر- الحقيقة . لقد فقد اسم نيتشه إحالته المعهودة إلى نمط من التَّفلسف تَخلّقَ في لحظات التحوُّلات الحضارية التي لازمت القرن التاسع عشر، أو فنّا في المنهج أو فلسفة في التقييم؛ صار اسم نيتشه علامة على أخطر سؤال يطفح على سطح الفكر وعرض على تشخيص وفَحْصٍِ غير معهودين لِلمسالك المريضة التي يُدبّر بها إنسان الثقافة الغربية وجوده في سُكْنى العالم الغريبة، هذا الانسان الذي هو الآخر ليس واحدا إلا على صعيد الاسم، ففي دواخله تَنْغَرِسُ تَأَوُّلات الأديان والثَّورات السياسية ونُظُم القيم الموروثة وهو على التّحقيق لا يَعْرِفُ نَفْسَه، لأنه لم يطرح هذا السؤال عن نَّفسه ولم يُكاشف حقيقة ذاته فكيف تتأتّى له هذه الغاية؟.

إن سؤال المعرفة عن الذّات بتحقيب نواتجها المعرفية ووسائلها الإدراكية وقيمتها بالإضافة إلى الحياة بالمعنى الذي خمّنها فيه نيتشه؛ علامة فارقة على زعزعة يقينيات وثوابت مُتأصّلة في الذَّاكرة الفلسفية كتخصيص الإنسان بِوصْفِ التّفكُّرِ؛ وتوجيه هذا الوصف التّفكُّري نحو اكتناه جوهر الحقيقة القُصْوى، واعتبار هذه الحقيقة جوهرانية مُنْفَصلة عن الصَّيرورة وواحدة ومُتعالية، وهذا التصور للحقيقة الموروث عن أفلاطون وبارمنيدس هو الذي أسّس عهد الحقيقة الأزلية الثَّابتة والكلية في الفلسفة والميتافيزيقا وبعدهما في المعرفة العلمية.

وإنه يجوز القول تبعا لهذا الـتأسيس؛ إن هذه الحقبة برُمّتها صارت تنتمي إلى حقبة المعرفة بما هي موضوع الفكر، أو لنقل : حقبة السعي وراء المعرفة، تبدأ من أفلاطون وتُشرف على خَتْمها مع الإغلاق الفلسفي عند هيجل، لكن تفكير نيتشه في مسألة المعرفة لا يمكن إدراجه ضمن هذا النّسق الفكري والمسار التاريخي؛ لأنّه فَكَّرَ المسألة من زاوية " ذرائعية المعرفة النّافعة بماهي ذرائعية الخطأ والوهم" وليس من زاوية التصور الميتافيزيقي التقليدي للمعرفة . من هنا فإن حقبة أخرى تَلَتْ حقبة السّعي وراء المعرفة، هي حقبة استشكال أمر الشغف الإنساني بالمعرفة ونزع بدائهه، وذلك بتغيير استراتيجية السؤال من: ما هي الحقيقة بماهي موضوع المعرفة ؟ وكيف نحَضْىَ بالقَبْضِ عليها؟ إلى الصّياغة التساؤلية: من يبحث عن المعرفة ؟ ماذا يُريد في نهاية الأمر وفي التّحليل الأخير ذلك الذي ينشغف بالبحث عن المعرفة ؟. ومن هذا الأسئلة يخرج نيتشه بأكثر آرائه خطرا في مُشكلة المعرفة. إن الحقيقة بما هي موضوع المعرفة لا تسكن الماهيات والجواهر؛ ولم تُخترع للتعبير عن هذه الجواهر والماهيات؛ وإنما جرى اختراعها في نُسَخها الميتافيزيقية والفلسفية والعلمية من أجل النّفع والفاعلية وضرورات الحياة، ومن أجل الاستقْواء، وتلبية دوافع الرَّغبة في الهيمنة. والسّبب الكامن خلف اختلاف التآويل وتعددها وتناقضاتها، هو اختلاف أركان النّظر، واختلاف أهداف البحث عن الحقيقة. وهي آراء تقترب من نظرية السوفسطائيونالقدامي في مطابقتهم بين الحقيقة والمنفعة وفي رفضهم للتمييز بين ظواهر الأشياء وحقائقها.

إن سؤال معرفة الحقيقة هذا، حَقيق علينا استشكاله من مداخله ومخارجه؛ ومُرادنا بالمداخل المعنى الذي خلعه نيتشه على مشكلة المعرفة والمساءلة الارتيابية لقيمتها؛ ونقصد بالمخارج امتداد هذه المساءلة وانفراط حبّاتها في التفكّرات الفلسفية التي تَلَتْهاَ، إلا أن ملمح هذا الامتداد الذي مارسته المساءلة الارتيابية لقيمة معرفة الحقيقة، عند نيتشه هو مّخْصُوصية المُتلقيّ، الذي تجاوز أفق الثقافة الغربية ليُعانق هم الثقافة العربية وما يُنْخُر جِسْمَها من أزمات؛ وما يَلُوح في أفُقِ مُتغيّاها من إرادة التحرُّر والنَّهضة والتحضّر ومجاوزة ثقافة الإنحطاط.

هذه هي الأمارة الكبرى على طرافة السؤال حول مشكلة المعرفة والحقيقة عند نيتشه، فمن المعهود في المطارحات الفلسفية حول نيتشه تحليلا ونَقْداً؛ الاكتفاء بالتَّحليل من الدّاخل والتَّوْسِعة في مقاصد النّص النّيتشوي مُوافقة أو مخالفة، إلا أن مسارات التَّحليل في هذه الأطروحة تَنْحُو منحى التّشاغل مع نيتشه باعتباره سؤالا عابرا للحدود القومية، ومتجاوزا لمضائق الثقافة الغربية مُتّجها إلى فضاء الثَّقافة العربية وكيف تلقّى الفكر العربي نيتشه الفيلسوف ونيتشه المسائل لقيمة المعرفة وإرادة الحقيقة.إن المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة بمسالكها المنهجية وخلاصاتها التأويلية وامتدادات هذه المساءلة في الفكرين العربي والغربي؛ لاتنحصر في دائرة التوصيف لصلة نيتشه بالذّرية الفلسفية التي استثمرت مفاهيمه أو تصدّت لارتيابيته؛ والتي تزحف لكيْ تَكُونُ لها الكلمة العليا في الفكر الحديث؛ وإنما تَنْدَرجُ في فضاء اهتمام فلسفي أخذ يتبلور في الفكر الفلسفي المعاصر ويخترق فروع المعرفة المُتعددة، ويَنْتَزِعُ الاعتراف تِلو الآخر بدَهْشَته وأصَالته، إنه فرع "المفاهيم المُقَارِنة"ّ، بماهو تشاغل فلسفي يقارن بين المفاهيم الفلسفية بدلالة ثنائية : مُقَارَنة داخلية بين المفاهيم؛ ومُقَارنَة خارجية بين المفاهيم كذلك، فمدار المقارنة داخليا تتعلّق بتناقل المفهوم الفلسفي من فرع معرفي إلى فرع معرفي آخر فيما يذهب إليه من آراء وفيما يتخذه من تأويلات، بشروط منهجية تداولية مخصوصة، كتناقل المنهجية الجينالوجية التي بلورها نيتشه إلى منهجية التّحليل التفكيكي عند جاك دريدا، ومنهجية التَّحليل الأركيولوجي عند ميشيل فوكو، حيث فقدت الجينيالوجيا دَلاَلاَتها الأولى وجرى تشغيلها في مهمة نقدية أخرى وبمواصفات مخصوصة لكنها أكثر فاعلية وإنتاجا، إلا أن هذه الاختلافية بين المفاهيم المتناقلة والمقارنة بينها كشفا لدِلالات الاختلاف والتَّشابه تنتظم في ثوابت ثقافية مشتركة، ويكون الاختلاف بينها في مستوى التأويل وبما يؤدّي إليه من تُعدّد في المَعْنىَ واختلاف المنْظُوراتْ، هذا النَّوع من المقارنة المفاهيمية نوع من الاختلاف الدّائر داخل الثقافة الواحدة.

أما المقارنة الخارجية بين المفاهيم، وهي الأكثر خصوبة وطرافة، فموصولة بتناقل المفاهيم بين الثَّقافات، والاختلاف فيها يكون مع الذين يقعون خارج دائرة الفكر المشترك، بما يعني أن ثمة كيفيات ومستويات مُتعددة للإختلاف والمقارنة، وتختلف أيضا كيفيات التلقّي بين المفاهيم المقارنة خارجيا تَعُدُّدََا إسميا ومنهجيا، فهناك من يسمّيه " إرتحال المفاهيم"، وآخر يسمّيه "تبيئة المفاهيم" وذاك " إعادة إبداع المفاهيم "، وآخر " تطبيق المفاهيم" إلا أن مَعْقِدَ الطَّرافة هو الإقرار بعدم ثبوت المفاهيم وانتقالها بين الثَّقافات أو لنقل " تعارف المفاهيم أو تَثَاقُفِها ".

- أهمية الموضوع:

إن هذه الأطروحة حول " المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه" La questionnement Sceptique de la valeur de la connaissance chez Nietzsche     تأتي أهمية إشكاليتها في أنها تستجمع في تحليليتها الدّلالة الثنائية في مسألة " المفاهيم المُقارنة:"، بمعنى أن دوائر انشغالها تدخل في رصد وتحليل الآلية والمهمة التي جرى فيها الأخذ بمفاهيم نيتشه في مشكلة قيمة المعرفة والحقيقة إلى فروع معرفية أخرى، وذلك من داخل الفكر المشترك أي الثقافة الغربية وأصولها أولا، والبحث أيضا في المسوّغات التي تأدّت بالفكر العربي المعاصر إلى الإعجاب بفلسفة "السائل الكبير" وتشغيل مفاهيمه بحثا عن التحرُّر ودروب الدُّخول إلى دورة حضارية ونهضوية جديدة، وتجديد أنظمة المعرفة التقليدية، أو المواجهة مع أفكاره باعتباره مسؤولا عن المآلات العدمية التي تطبع الفكر الفلسفي المعاصر ثانيا .

والمساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة وامتداداتها في الفِكْر الفَلْسفي المعاصر، تأتي فضلا عمّا سبق ذكره في سياق المُراجعات النَّقدية التي قطعتها المساءلاتالابستمولوجية المعاصرة في نقدها ليقينيات راسخة في الذّاكرة العلمية والفلسفية، كالقول بجوهرانية العقل وبموضوعية المعرفة والفصل بين الواقع والقيمة والنُّمو التاريخي لفكرة الحقيقة والمسار الغائي للحركة التاريخية التي يعد هيجل العلامة الأخطر على بلورة هذه الصّياغة، والنَّقد القيمي للمعرفة عند نيتشه كان قد دشّن هذا النَّقد للمعرفة لكن من وجهة نظر قيمية لا من وجهة نظر ابستمولوجية كما هو النَّقد في الدَّرس الابستمولوجي والتاريخي المعاصرين بخاصة مع "باشلار" Bachelard أو جورج كونغلام Canguilhem مثلا. إن النَّقد الجذري لغرائز المعرفة عند نيتشه واستبدالها بغرائز الحياة وإحلال الحقيقة الفنية محل إرادة الحقيقة اقتضت منه مراجعة إرادة الحقيقة وقيمة المعرفة بالإحالة دائما إلى شروطها الوجودية ورهاناتها المصلحية المُنتجة لها، وما الاعتقاد في الحقيقة المطلقة والثابتة والكلية سواء في طبعتها الميتافيزيقية أو في طبعتها العلمية سوى خطأ ووهم مرتبط بالحاجة الحيوية لإنسان حي لا ينفك عن الرَّغبة في الاستقواء، فالقيمة النَّفعية والوسائلية هي محرّك الانشغاف بالحقيقة وليست غاية تُدرك لذاتها، أما الحقيقة العلمية التي يتباهي بها العقل الحديث فليست في نظر نيتشه أكثر قيمة ولا أكثر موضوعية ولا أكثر تطابقا مع الواقع من الحقيقة الميتافيزيقية . وبهذا فالنَّقد والارتياب لا يستثني لا الحقيقة العلمية ولا الحقيقة الفلسفية والميتافيزيقية، ذلك أن العلم في نظر نيتشه يواصل العمل الذي قامت به الميتافيزيقا ويخضع إلى نفس المبادئ المثالية.

ونظرا لجذرية هذا النّقد أوالثورة الشّديدة الوقع على الآذان واستباقها بذهنية نبوئية لمآلات المشاريع الثقافية الغربية، وتحقّق الكثير من هذه النّبوءات في الفاعليات التاريخية، فقد شهدت فلسفة نيتشه إعادة بعث وتنشيط بخاصة عقب الحرب العالمية الثانية التي كانت محكّا ميدانيا على تهافت مشاريع الأنوار وعناوين الحداثة : العقلانية، التقدم، الحرية. وإعادة البعث هذه على ضوء النّماذج التي سقناها كعيّنات على تواصل النقد النيتشوي في الفكر الفلسفي المعاصر يجوز تفريعها إلى فرعين:

- الفرع الأول: يخص إمتدادات النَّقد النيتشوي بعامة سواء في الفكر الغربي المعاصر أو في الفكر العربي المعاصرأيضا، وهي امتدادات متنوّعة الفضاءات والحقول المعرفية، بين التّحليل النّفسي عند فرويد Freud ونقد ثقافة العقل القمعية مع مدرسة فرانكفورت بخاصة على النّحو الذي بلورها فيه ثيودور أدورنو Adorno، وأيضا اللّحظة الحيوية الفرنسية التي تعد الأكثر استقبالا لنيتشه وترحيبا بأفكاره المُنتجة في التّحليل والمُعبّرة عن أزمة الانسان الحديث، بخاصة مع النّاعي لخبر موت الحداثة "جون فرونسواليوتارLyoutard"، والمُنذر بموت الواقعي وأفول الحقيقة "جون بودريار Baudrillard "، والعاشق لسُكنى الأقاليم وإبداع المفاهيم "جيل دولوز Deleuze".

إلا أن معقد الطّرافة في الفكر العربي؛ التَّبكير في التعرُّف على فلسفة نيتشه، والإعجاب بجمالية اللّغة وشاعرية الأسلوب، والتنبيه إلى الثّورة الرُّوحية والحاجة إلى ابتكار معاني وقيم جديدة تمُكّن الإنسان من تجديد نهضته والدُّخول إلى التّاريخ وخلع المعاني عليه، وكان فرح أنطون وسلامة موسى ومالك بن نبي وعبد الرحمن بدوي من الأوائل الذين فتحوا جسور التَّواصل مع نيتشه والمُستخرجين من آرائه لبُابُ القوة والحماسة من أجل قيادة الانسانية من جديد.

- الفرع الثاني: يخص امتدادات النَّقد النيتشوي لقيمة المعرفة وإرادة الحقيقة لدى عيّنات من المساءلات الفكرية الراّهنة، حيث أخذنا نموذجا من القومية الفلسفية الألمانية يستجمع في قراءته التوظيف المحدود والاعتراض على هذا الشغف الفلسفي بنظرية نيتشه في المعرفة المُفرطة في انسياباتها التأويلية، واللاّغية لقيمة العقل بترسيخ القدم في النموذج الجمالي والتأويل الأسطوري الذي ينصّب ملكة الذّوق على العرش، وكان "يورغنهابرماس" Habermas النموذج الأمثل على تطوير هذه المساءلة.

والنموذج الثاني: جئنا به من القومية الفلسفية الفرنسية، وهو نموذج ينخرط بصورة لا سابق لها في الإشكال النيتشوي ويستكمل مشروعه النقدي، ويواصل لائحة المشكلات التي أثارها نيتشه ولم يتمكن من إنجازها، فضلا عن اختراقه لحدود الفكر الفلسفي التقليدي بكتابة التواريخ المنسية والمفاعيل الصّامتة التي تتكلّم في صمت وتنخر بنى الوعي المعاصر، وكان " ميشيل فوكو"Foucault الشَّاهد الأمثل على الأخذ بالنَّقد النيتشوي لقيمة المعرفة وإرادة الحقيقة إلى أبعد نتائجها المأساوية .

هذا، وإن النّقد الجذري لقيمة المعرفة والحقيقة جَرى تشغيله في الفكر العربي المعاصر وأُدخل المُعجم النَّقدي الجينيالوجي من أجل قراءة التراث المعرفي الاسلامي قراءة نقدية، لكي يعي العقل المسلم المعاصر نسبية الحقيقة التي يتوهم أنها مُطلقة، ويعتمد على الذّات في التَّشريع، فضلا عن نفي التوجُّه الدّيني الخالص على أنساق الفكر الاسلامي، والرَّبط بين المعرفة والقوة في المذاهب الفكرية والفقهية الإسلامية، وكيف أنَّها نتاج لأنطمة الحقيقة والرّهانات السياسية أكثر منها تلبية لنداء الحقيقة الخالصة، وكان "محمد أركون" في مطارحاته النقدية النًّموذج الذي طبّق المنهجية النّشوئية الجينيالوجية وغَرَسَ إرادة المعرفة في تربة إرادة القوة من أجل الخروج بهذه النتائج.

ولئن كان محمد أركون قد شغّل المُعْجم النَّقدي النيتشوي من أجل المهمات التي أوردنا؛ فإن "إدوارد سعيد"، قد أخذ بهذه الارتيابية إلى محاضنها الثقافية التي أنتجتها، أي إعادة توجيه السهم إلى صدر الرّامي للكشف عن أوهامه التّخيُّلة عن الآخر، هذه الأوهام فتّتها إ.سعيد بزعزعة التمييز المزعوم بين المعرفة الخالصة والمعرفة السياسية، وهكذا انقشع الضّباب عن الصّورة الحقيقية للخطاب الاستشراقي الذي بدى باعتباره وليد إرادة القوة النّاهمة بالسّيطرة ووليد الرّهانات السياسية التي استثمرت نواتجه المعرفية من أجل السيطرة على الآخر أكثر من كونه رغبة في المعرفة. إن المعرفة الاستشراقية ليست معرفة تطابقية مع الشرقي الفعلي، إنها إرادة قوة وليست رغبة في التعرّف الموضوعي، إنها مؤسسة تاريخية ونظام من المعرفة يُرتِّبُ فيها الوعي الغربي علاقته التَّخْييلية ترتيبا سياسيا ويُوزّع فيها هذا الوعي الجغرافي السياسي إلى معارف تبدو نصوصا منفصلة عن أصلها .

إن أهمية الموضوع إذن، تبدو لنا في امتداد هذه المساءلة النقدية لقيمة معرفة الحقيقة في الفكر الفلسفي المعاصر، وأهميتها تكمن أكثر في دخولها إلى الفكر العربي وما يَنْخُرُ وعيه من تمزّق، ونهَامَةٍ في البحث عن الأدوية التي تمكن المريض من الشفاء والنّهوض من جديد، وإنه ليبدو أن نقدية نيتشه وأفكاره كان لها موقع في صيدلية الشفاء الفكري هذه.

- إشكالية الموضوع:

إن استشكال هذه الرّوابط المفهومية بين النَّقد النيتشوي لقيمة المعرفة في سعيها نحو استملاك الحقيقة وبين امتدادت هذا النَّقد في الفكر الفلسفي المعاصر، دفع بنا إلى بناء الإشكال الذي يمُسك بتشعّبات المسألة، ما دامت المسألة إشكالا يتطلّب حلاّ أو حلولا، يمسك بها وبتفرّعاتها آخذا ببذل الوسع من أجل الإجابة عن السؤال المركزي الآتي :

كيف حوّل نيتشه جغرافية التفكير وقِبلته من السعي وراء المعرفة إلى مشكلة المعرفة، فإلى قيمة هذين المثالين اللَّذين حَكَماَ مجموع تصوُّرات الفلاسفة وحرّكا جُلّ مناهجهم واستفردا بكامل شغفهم نحو المعرفة؟ وإذا كانت هذه المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة عند نيتشه قد زعزعت أركان أنظمة المعرفة الفلسفية ودكّت المرتكزات التي تتأسّس عليها بماهي مرتكزات وأنظمة ذاتية تبتغي القوة والهيمنة فما أسباب هذا الانجذاب نحوها في الفكر الفلسفي المعاصر ؟ وكيف تلقّى الفكر الفلسفي المعاصر سواء الغربي أو العربي مساءلة نيتشه القيمية لمعرفة الحقيقة ؟ وما حدودتوظيفها؟و لماذا رفضتها بعض المناحي الفلسفية في الفكرين الغربي والعربي ورحّبت بها مناحي فكرية أخرى؟ وما قيمة هذا الارتياب الكلي حيال فضيلة الأنساق الفلسفية أي حيال إرادة معرفة الحقيقة ؟

- الدّراسات السابقة :

هذا، وقد تعرّضت دراسات وأطروحات مختلفة سابقة لمشكلة قيمة المعرفة عند نيتشه بالتّحليل والنّقد، أو بالعرض والاعتراض، ويقتضي التمشّي المنهجي أن نُقسّم الدّراسات السابقة إلى قسمين :

1- دراسات أكاديمية نوقشت بالجامعات الجزائرية.

2-دراسات سابقة خاصة، نشرت في شكل كتب أو مقالات فكرية.

من الأجدى أن نشير أولا، إلى البحوث الأكاديمية التي أنجزت في الجامعات الجزائرية، حول نيتشه، وفي مبلغ علمنا، لم تناقش هذه البحوث مشكلة قيمة إرادة المعرفة بالمعنى الذي سطّرنا خطوطه هنا، إنّما تماسفت أي اقتربت في المسافة، وتماسّت في حدود، فثمة أطروحة دكتوراه لجمال مفرج، "قضايا الثَّقافة الانسانية في مشروع نيتشه الثوري"، نوقشت بقسم الفلسفة، جامعة منتوري قسنطينة (2003/2004) جامعة منتوري قسنطينة الجزائر، حيث خصّص المؤلف فصلا عنوانه"المعرفة وحقيقتها"، استشكل فيه مسألة المعرفة عند نيتشه من جهة المصادر الفلسفية لنظرية نيتشه المعرفية، والمعرفة باعتبارها سعيا وراء السَّيطرة، والأساس العقلاني للثقافة القمعية، والعلوم الوضعية أوالطّريقة العلمية للهيمنة الثقافية، ومُنهيا تحليله في شكل ريبة من نتائج هذه النّظرية المنظورية الخطيرة التي ارتكزت الانسانية فيها على معايير خاطئة. وثمة دراسات أخرى خصّصها جمال مفرج لمناقشة إمتداد ارتيابية نيتشه في الفكر المعاصر ، منها كتابه " الإرادة والتأويل" تغلغل النيتشوية في الفكر العربي المعاصر، " الذي صدر عن منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم بيروت 2009، حيث خصّص المؤلف قسما عن " تأثير نيتشه على المفكرين العرب" وفَرَّعَهُ إلى المباحث التالية : نيتشه عند دعاة التقدُّم العرب، النّقد الجينالوجي بين ترحيب المفكرين العرب ونقدهم، هشام شرابي تحت شجرة نيتشه. وتختص هذه الدراسة برصد لحظات اللّقاء الأولى بخاصة مع فرح أنظون وسلامة موسى، الذين اجتذبتهم النيتشوية بدعوتها إلى سحق مشاعر العدم والانحطاط وتكسير ألواح القيم القديمة وتجديد أخرى باعثة على النّهضة، فضلا عن تصوير الدراسة للإحراجات المعرفية والأخلاقية التي ظهرت في تشغيل المفكرين العرب للمنهج الجينالوجي وتَرَدُّدِهِم في الأخذ منه أو الإجتزاء من إجراءاته، وتتوقف هذه الدراسة أيضا عند نموذج تطبيقي هو " هشام شرابي". لكن المؤلف لم يمضي بتتبع هذا الامتداد النيتشوي في الفكر العربي المعاصر إلى أسئلة الراّهن التي تبدو لنا أطرف وأكثر خروجا عن الإحراجات التي كان يخشى منها دعاة التقدم هؤلاء، وأكثر تحررا من نيتشه نفسه بعد المآلات العدمية التي أنتجها مشروعه وانسداد دروب البشرية في البحث عن مسوغات لمعنى الحياة. ثمة أيضا أطروحة دكتوراه ل: حميد حمادي، نوقشت بقسم الفلسفة جامعة وهران، (2007/2008)، عنوانها " التجربة الجمالية في الفكر الفلسفي عند نيتشه"، وهي أطروحة ناقش فيها صاحبها المضامين والأبعاد الجمالية في فلسفة نيتشه، وقد خصّص فصلا عنوانه :الفيلسوف الفنّان، له صلة بإشكالية بحثنا، تعرّض فيه لتوصيف التّحوُّل الذي أقامه نيتشه من المعرفة الميتافيزيقية إلى المعرفة المَرِحَة بما هي في صميمها تعبير عن تحول نحو التجربة الفنية وخلع الدّلالات الجمالية على النّشاط المعرفي للإنسان. وإذا كان جمال مفرج، يجري فصلا بين مشكلة المعرفة ومظاهر الفن، فإن حميد حمادي يجعل من مشكلة المعرفة تابعة لمشكلة الفن.

ومن المهم أن نذكر أيضا، مذكرة ماجستير، الباحث، عبد القادر بودومة عنوانها "مفهوم الكتابة وتجربة الاختلاف من خلال مفهوم الكتابة عند نيتشه"، بقسم الفلسفة جامعة وهران 2003/2004، رام الباحث فيه استخراج مساءلة الأصول مساءلة جينالوجية من خلال نقد المفهوم الميتافيزيقي للكتابة، وفتح التفكير على الدلالة الجديدة للإختلاف الأنطولوجي Différence Ontologique بما هو اختلاف لا ينطلق من الأنساق الكبرى التي ، بقدر ما يقوم على تجاوزها وتدمير وهم امتلاك الحقيقة، وفي هذا المقام ينبه الباحث إلى أن هذه المجاوزة لا تعني امتلاك حقيقة ميتافيزيقية أخرى بالتحرر من الأولى؛ إنما الميتافيزيقا قدر الوجود ولافكر يمرح خارجها. وفي المقابل؛ إن فالإعلان عن محاولات التجاوز من قبل فلاسفة الاختلاف (نيتشه، هايدغر، فوكو، دولوز، ليوتار...) لا يعني أبدا هدما للحقيقة، وإنما وعي الفكر بأن كل تفكير ليس إلا مفعولا لتأويلاته لا غير، وإلى تاريخ الحقيقة والمعنى هو تاريخ ما قيل حول الحقيقة، وما أريد له أن يكون له معنى، ولن يتم مثل هذا التجاوز إلا إذا تم تخليص وإنقاذ الذات من محرقة Holocauste الوضوح، واليقين، والتماثل، وجعلها داخل فضاء فردوسيParadisiaque ، فضاء ال"لا-معنى" Le non-sens والتشتت Dissémination، واللاتمركز Non-centre، فالإصغاء و السماع التراجيدي لمفردات اللغة لاقتفاء أفق المغايرة والاختلاف، وتجاوز البعد الأحادي لمعناه، والدلالة الواحدة للنص، ولتجانسه مع ذاته، وللمدلول الواحد.

ومذكرة ماجستير أيضا عنوانها:"موقفنيتشه من الميتافيزيقا" للباحث : عبد النُّور بوراراش ناقشها بجامعة الجزائر، 2009/2010. ومذكرة الباحث أيضا : عبد المالك عياَّدي عنوانها: "مفهوم التّراجيديا عند نيتشه"، نوقشت بالمدرسة العليا للأساتذة، الجزائر 2008/2009. ومذكرة الباحث : عبد الكريم عنيات، الموسومة ب " قراءة نيتشه للفلسفة اليونانية"، جامعة منتوري قسنطينة، ناقشها بقسم الفلسفة، جامعة منتوري قسنطينة الموسم الجامعي 2009/2010.

هذا، وأما ما أُلّف من كتب، فيُمكن القول إنها هي الأخرى تماسفت أي اقتربت في المسافة مع موضوع بحثنا، وتجب الإشارة إلى دراسة جون غرانيي Grenier   Jean"مشكلة الحقيقة في فلسفة نيتشه"،, Le problème de la vérité danse la philosophe de Nietzsche, Seuil Paris 1966، وهو من أقوى المطارحات التي ناقشت مشكلة معنى الحقيقة عند نيتشه، تعرّض المؤلف فيه إلى جملة مسائل منها: إشكالية المنهج في قراءة نيتشه،Lecture de Nietzsche problème de méthode وأيضا مقاربات مشكلة الأنطولوجيا les approches du problème ontologique، الوجود والحقيقة Etre et vérité، قلب الميتافيزيقا le renversement de la métaphysique . وبرأي المؤلف أن نيتشه ليس مجرد مُعلّق على القضايا الكبرى للفلسفة شأن الفلاسفة الآخرين، وإنما ينقض جذر الفلسفة بحد ذاتها، لأن نيتشه يَطرح واجهة جذرية سؤال معنى الحقيقة، واليقين الذي تَلْتَحِفُهُ التَّفكُّرات الفلسفية : في المعرفة، هوية الوجود المثالي، الاعتقاد المُطلق في خيرية المعرفة الانسانية، إنه يستخرج مبادئ هذا المنهج التأويلي للوجود، بماهي مبادئ تعكس تعددية تأويلية، وأعاد كتابة وصَهْرْ جميع المقولات :الحياة، الذّات، الجسد، التعالي، الزمن، الطبيعة. لقد فهم بأن هذه الأفكار التأويلية تتهم الوحدة الحميمية بين الحقيقة والوهم وتُمزّقها.

كما يتبدّى لنا كتاب "على دروب زرادشت" لستيبانأودويف، ترجمة فؤاد أيوب وصادر عن دار دمشق في سنة 1983، ورغم القراءة الإيديولوجية المُفرطة في إيديولجتها فيما تذهب إليه من إدراج فلسفة نيتشه كأعراض انحلال للبورجوازية، إلا أنّها اختصت برصد امتدادات فلسفة نيتشه بخاصة في الاتجاهات الحيوية اللاّحقة، وكيف يجري تطويع النّص النيتشوي بما يخدم النظرة الفلسفية للذّات المؤوّلة، فالمؤول هنا يُعبّر عن رؤيته عندما يستخدم مفردات نيتشه، وبرأيه أن النيتشوية تجتذب مُنظّري البورجوازية المعاصرة بتوجهها المُناهض للديمقراطية والمناهض للنزعة الانسانية، وإن المناداة بتدهور العقل وانحطاط الفكر النّظري المنهجي وإلغاء قيمة المعرفة العلمية الموضوعية، إن هي إلا انغراس في العاطفية العدمية وتهيئة الأرض لمخطط السياسية الكبرى بما هي سياسة إمبريالية في أساساتها، وما ارتيابية نيتشه التي تستبدل الحقيقة بالتزويرات النافعة، وتستبدل التَّحليل العلمي للواقع الموضوعي بالرمزية الوهمية والعقل بتأكيد الحياة والمسار الجدلي بالسوفسطائية، ما هذه الارتيابية سوى الظاَّهرة الفاقعة عن الأزمة المتعاظمة عن ظاهرة الانحطاط الفكري والانهيار الأخلاقي للمجتمع الرأسمالي، من النماذج الفلسفية التي يسوقها على امتداد ارتيابية نيتشه في الفكر الفلسفي المعاصر : الأنسية الطبيعانية عند كارل لوفيث، الموقف الظّواهري عند أوويغن فنك، ونحو ملاقاة نيتشه عند كارل ياسبرس، والعدمية والتاريخ عند هايدجر، وهل يستطيع الانسان مجاوز نفسه عند أ.فبولنوف.

. وكتاب" محمد أندلسي"، "نيتشه وسياسية الفلسفة" الصَّادر عن دار توبقال بالمغرب 2006، حيث خصّص المؤلف الفصل الأول من الكتاب للحديث عن "الفلسفة من منطق العقل والهوية إلى منطق الجسد والاختلاف"، ابتدأ المؤلف فيه الحديث عن الإطار العام للنّقد الجينالوجي، ثم الأصل اللاّمطقي للمنطق، يليه مبحث العقل واللاّعقل. حيث ينتهي التّحليل إلى إقامة تقابل بين العقلانية التَّقعيدية المولعة بضبط التفكير وتأطيره، وبين اللّعب باعتباره يبصر في هذه العقلانية التَّقعيدية لُعْبة خاضعة لتوجيهات إرادة القوة المُتنازعة.

وثمة دراسة أخرى جماعية، لا ترحب بنيتشه ترحيبا قويا، بقدر ما تناهض هيمنة فلسفته على الكثير من الإنتاجية الفلسفية في الساحة الفرنسة المعاصرة، وَتمَُوْضِعُ نفسها في الجهة المقابلة كتعبير عن هذا الرفض، عنوان هذا الكتاب "لماذا نحن لسنا نيتشويين" Pourquoi nous ne somme pas nietzschéens, Grasset 1991 paris .

وشارك في تحريره ثمانية مؤلفين منهم : ألان بوي Alain Boyer وأندريه كونت سبونفيل André comte-Sponvilleولوك فيري Luc Ferry وألان رونو Alain Renault وغيرهم. ومجمل الطّرح الفكري لهذا الكتاب : مناهضة اللاّعقلانية النيتشوية والاستلهام من أفكار هابرماس من أجل إدانة فوكو ودولوزودريدا واتهامهم بالوقوع في أفخاخ العدمية النيتشوية، ومن الموضوعات التي جرى تناولها في هذا الكتاب: التراتب والحقيقة Hiérarchie et Vérité، الفن في خدمة الوهم l'art au service de l'illusion، اللّحظة النيتشوية في فرنسا le moment français de Nietzsche، ميتافيزيقا الحياة عند نيتشه، La métaphysique nietzschéenne de la vie ونيتشه مربيا Nietzsche Educateur، ونيتشه في البلاغة الارتكاسية . Nietzsche dans la rhétorique réactionnaire

ومراد هذا الكتاب هو تفكيك نيتشه باعتباره الأصل في تكوُّن فلسفات الاختلاف واللاّعقل والعدمية، ولحظة ما يتم تدمير هذا الأصل تتهاوي الفروع الأخرى تباعا، وإن الطابع النّظالي الذي يطبع الكتاب يروم مؤلفوه أن يُكوّنوا جيلا فلسفيا جديدا مختلفا عن الجيل النيتشوي من حيث التوجُّهات والاهتمامات والأهداف.

هذا، ومن المقالات الجديرة بالذّكر، نص" منظورية الحقيقة عند نيتشه" ليوسف بن أحمد، المنشور بمجلة الفكر العربي المعاصر العدد 103/102.(1998). وهو من النّصوص التي فتحت مشكلة المعرفة والحقيقة مع نصوص نيتشه مباشرة ومن غير توسّطات تأويلية، وقاربَ هذا النّص مُستلزمات التّصوُّر الميتافيزيقي للحقيقة، ونقده الجينالوجي، هذه المُستلزمات هي: (التقييم الأنطولوجي للعالم إلى وجود ومظهر، الهوية، الألوهية، المعقولية) وفي مقابل هذه الرؤية الميتافيزيقة فإن منظورية الحقيقة تتحدّد وفقا للأسس التالية :(العالم من حيث هو نص، المعرفة من حيث هي تأويل، الحقيقة بماهي اعتقاد، الحقيقة هي قيمة ومنفعة، والحقيقة-المنفعة من حيث هي خطأ ووهم) ولم يتخذ هذا النّص موقفا تقييما من نظرية منظورية الحقيقة واكتسب النّص قيمته من مقدرته التحليلية والتركيبة لهذه النّظرية .

كما يمكن أن نذكر المقال القيّم لـ"سعاد حرب" المنشور في مجلة "باحثات"اللُّبنانية الكتاب الخامس 1998-1999.- "في استقبال نيتشه"، حيث لاتتجاوز الدراسة الفترة الزمنية التي بدأ فيها الفكر العربي تعرفه على نيتشه، ومن الأسماء المذكورة في مقالها : سلامة موسى وعبد الرحمن بدوي عباس محمود العقاد وغيرهم، ولم يُسعف كاتبة المقال الحظ في الحصول على كتاب فؤاد زكريا " نيتشه الذي نشره في سنة 1956كيْما تُدرجه في دراستها. أما المقالة التي كتبها "أحمد عبد الحليم عطية "والمنشورة في مجلة الفكر العربي المعاصر العددان 150/151. تحت عنوان "نيتشه في الفكر العربي المعاصر"، فهي مقالة تكتسب قيمتها من كثرة الإحالات والرّصف لما كتب عن نيتشه في الفكر العربي ولا تكتسبها من عمق التّحليل لأساب هذا الاستقبال النيتشوي في الفكر العربي المعاصر، فضلا عن أنها مُؤطَّرة في السياق الزَّمني التاريخي، حيث أسئلة النَّهضة والتحضُّر هي المهيمنة، ولم تتعرّص لأسئلة الفكر الفلسفي العربي الراهن، وكيف تم استجلاب نيتشه من جديد، لكن ضمن جبهات تأويلية لم يفكر عصر النهضة العربي فيها كقيمة العقل وعناوين الحرية والعدالة وأزمة نقد الحقيقة واللاّأخلاقية. هذه هي إذن عيّنات على دراسات سابقة أو إسهامات فكرية ناقشت ارتيابية نيتشه في الفكر الفلسفي المعاصر.

وملمح المفارقة الذي تسلكه أطروحتنا هو دراسة قيمة معرفة الحقيقة في السؤال الراّهن للفكر العربي، وما يعتمل داخله من هم حضاري ومن قلق تحّديات جديدة، وكيف تم تشغيل هذه المساءلة بوجهين متعاكسين ولإرادتين متعارضتين : أي بين الأخذ بهذه المساءلة إلى عمق التراث المعرفي الإسلامي وتفكيك أنظمته المعرفية على ما يطبق محمد أركون، وبين إعادة نقد المعرفة الغربية التي تم إنشاؤها عن الآخر وتفكيك آلياتها وفضح سلطتها المُتخفية.

- أسباب اختيار الموضوع:

إن هذه التّجاذُبات الفكرية بين ثقافتين مُختلفتين في شخص نيتشهالمفهومي، وكيف جرى استقباله وتشغيل مفاهيمه، وذلك من منظورات مقاصدية مختلفة، من أبرز الأسباب التي دفعت بنا إلى اختيار هذا الموضوع الذي يتأطّر في دروس التّشاغل بالمفاهيم المقارنة، فضلا عن أسباب موضوعية وذاتية أخرى هي تواليا:

- أ. أسباب موضوعية:

مركزية سؤال المعرفة والحقيقة في حقل الفلسفة بعامة، وبماهي السُّؤال الخالد في دهشتها وقلقها وراهنها، وتَجدُّد الاهتمام به أي بسؤال المعرفة بعد فترة انقطاع بسبب النّجاحات النّسبية التي لازمت العقل التجريبي وتقلَّصت تبعا لهذا النّجاح دوائر القلق الفلسفي الباحثة عن الأمن الأنطلوجي واليقين المعرفي، وذلك بادعائها تملّك الحقيقة والتّطابق مع معاييرها في العلوم ومناهجها. وأيضا بسبب جذرية المساءلة النيتشوية لقيمة المعرفة والحقيقة وترحيب ورثة هذه المساءلة بهذا الارتياب مثل ميشيل فوكو في الفكر الغربي ومحمد أركون في الفكر العربي، والأخذ بهذه المسلكية الارتيابية إلى حقول التشاغل المعرفية، هذا الترحيب مكمن الغرابة فيه أنّه جمع أطيافا من الأفكار المُتضادّة، ينتهل أغلبها من نصوص نيتشه رغم الفارق الذي يتبدّى بينهما، وسبب موضوعي آخر هو تزايد الحاجة إلى معرفة أسباب هذه الانتصارات التي تُحقّقها الارتيابية في المعرفة والفعل راهنا، من أجل نقدها وإعادة قيمة الحقيقة إلى مكانها المُتعالي باعتبارها قيمة موضوعية مستقلّة عن الذّات التي تحكم أوتبَحث عنها.

- ب. أسباب ذاتية:

ترجع في مقاصدها العامة إلى الرَّغبة في استكمال الاهتمام بإرادة الاستيعاب المُتبصّر لبنية الفكر الفلسفي النيتشوي التي تبدو في حقول الفكر الفلسفي المعاصر وكأن لها الكلمة العليا والجذور البعيده للخطاب الفلسفي الراهن، حيث بدأ الاهتمام بإنجاز مذكرة ماجستير عنوانها "إشكالية التراتب في فلسفة نيتشه" نوقشت في 2008 بجامعة الجزائر، ونشر كتاب عنوانه "تحولات الفكر الفلسفي المعاصر"-أسئلة المفهوم والمعنى والتواصل 2010. عَنْوَنْتُ أحد فصوله بـ"الأصول النّيتشوية لنظريات النقد المابعد حداثية"، وكَبُر بعد ذلك الاهتمام وتحول إلى مشروع بحث لا ينحصر في نيتشه، وإنما يتقصّى امتدادات فكره في الفلسفة المعاصرة، وإنه اليوم بهذه الصّورة التي هو عليها.   وسبب آخر ذاتي أيضا هو تَوَاصُلُ الاهتمام بفرع " المَفاهيم المُقارِنة" الذي رَشَحَ من فرع آخر أعم منه هو " الفلسفة المقارنة"، وقد رأينا أن دراسة امتدادات المساءلة الارتيابية بالمعنى الذي بلورها فيه نيتشه في الفكر الفلسفي المعاصر فرصة سانحة لاستخراج دلالات أوجه التشابه والاختلاف بينها، وفرصة أيضا لمعرفة الكيفية التي يُشغّل بها المُتفلسف المُتلقّي مفهوما ليس من إنتاجه، وما الآليات التي يتوسّل بها هذا المتلقّي من أجل الجمع بين الدّلالات الأصلية والدّلالات التي يكون عليها المفهوم الفلسفي بعد نَقْلِهِ من ميدان التَّداول الأصلي إلى مهمة تشخيصة ونقدية أخرى؟ لأنه بمعرفة كيفيات تناقل المفاهيم نرتقي من رتبة تلقّي المفهوم الفلسفي إلى رتبة إعادة إبداعه وتصنيعه.

- منهج الدراسة:

هذا، وقد توسّلنا بجملة من الإجراءات المنْهَجية التي تحدَّدت انطلاقا من طبيعة الموضوع نفسه، وبما يقتضيه المسار التحليلي من أجل الإجابة عن الإشكالية، فكان أن اعتمدنا على أدوات المقاربة التّحليلية التَّوْصيفية وعناصرها : أولا:القسمة أو التَّفكيك، وثانيا : التَّشريح. فقسّمنا رُؤية نيتشه للمعرفة إلى عناصرها المُكَوّنَةِ لها، ثم شرّحنا هذه العناصر إلى مُكوّناتها الجزئية حتى لا يبقى أيّ جانب خارج هذه القسمة والتشريح، وذلك بهدف إيضاح : ماهي أجزاء مُشْكلة المعرفة عند نيتشه وعناصرها ومُكوّناتها؟ ما الأسس والبُنى التي ترتكز عليها هذه العناصر وخلفياتها؟ ولأيّة أغراض تكون المراهنة على المنظورية بدلا من معرفة الحقيقة؟.بالإضافة إلى عمليات وخَطَوات المنهجية الاستقرائية من أجل تتبُّع التّقاطعات واللّقاءت بين ارتيابية نيتشه من إرادة معرفة الحقيقة، وبين امتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر واستخلاص أحكام عامة من هذه التّقاطعات الجُزئية؟ فلماذا رحَّبت مواقف بهذه الارتيابية ورفضتها مواقف أخرى؟ وباستقرائنا لهذه المواقف ومُراقبة كيفية تقاطعها وتَرابُطها وحُضُورها وِغيابها تتوافر لدينا فرضيات كلية تمكّننا من تفسير هذه التَّقاطعات واللّقاءات بين ارتيابية نيتشه وبين الأفكار التي أخذت بها أو رفضتها. أخيرا كان المنهج المقارن أيضا يحتل موقعا مركزيا في مسارات البحث عن حل للإشكالية، فاستخْراج دَلالات أوجه التّشابه وأوجه الاختلاف بين ارتيابية نيتشه وارتيابية فوكو أو بين جينالوجيانيتشه والمنهجية النُّشوئية الجينيالوجية عند أركون مثلا موقوف حُصُوله على توظيف منهجية المقارنة التي تكشف آليات التَّوظيف وحدود استعمال المفاهيم أو التصرّف فيها.

- صعوبات الدراسة :

ولم يَخْلو البحث من صُعوبات رافقته من مراحله الجنينية الأولى، إلى لحظة الاكتمال بالصّورة التي هو عليها، ومن أقوى هذه الصّعوبات افتقادنا لبعض المراجع المُتعلقة بامتدادات هذه الارتيابية النيتشوية حيال إرادة معرفة الحقيقة في الفكر الفلسفي العربي، فلم نتمكّن من الحُصوُل على مجلة الجامعة التي نَشَر على صفحاتها "فرح أنطوان" مقالاته حول " الفيلسوف نيتشه وفلسفته"، واكتفينا باقتباس نصوص من هذه الأفكار عن مراجع أخرى، فضلا عن حاجة البَحث إلى تمرّس واسع ومُجْهدٍ إلى استملاك أدوات منهجية مُتعددة وفي وقت واحد: التحليلة والاستقرائية والمُقارنة، وفيما عدا بعض المقالات والمكتوبات التي فتحت ولأول مرة حقيقة الجسر بين نيتشه ودعاة التقدم العرب؛ لا توجد هناك دراسة مُوسّعة تَسْتشكل انغراس نقد نيتشه لإرادة معرفة الحقيقة في الفكر العربي المعاصر وتكاثر هذا الانغراس لدى فئة من هذا الفكر العربي، مازالت الاهتمامات فيها بِكرا تحتاج إلى من ينقلها من دائرة النسيان إلى دائرة التذكُّر والوجود.

- نماذج من مصادر البحث

هذا، ومن المصادر التي اعتمدنا عليها في هذا البحث المُتشعّب في فصوله ومباحثه: مؤلفات نيتشه المركزية في نظرية المعرفة المُترجمة إلى الفرنسية نذكر منها:"كتاب إرادة القوة"، la volonté de puissanceترجمة جنفيفبيانكي G ,Bianquie، دار غاليمار Gallimard، 1948، ونفس العنوان أيضا، ترجمة هنري آلبيرH,Albert، منشورات كتاب الجيب الفرنسية، 1991، كذلك كتاب "كتاب الفيلسوف" Le Livre du philosophe 'études Théoriques(1872-1875)، ترجمة أنجيل كريمر ماريتي Angèle Kremer-Marietti، منشورات فلاماريونFlamarion، والمؤلّفات الفلسفية الكاملة ترجمة بيار كلوسوفسكي عن دار غاليمار 1976، Les œuvres philosophiques complètes (Fragments posthumes,Automne 1887- mars 1888) Pierre Klossowski. NRF. Gallimard 1976.

أما المصادر المُترجمة إلى اللغة العربية فمنها "الحقيقة والكذب بمعناهما الماوراأخلاقي"ترجمة محمد النّاجي، صادر عن دار أفريقيا الشرق 2009، وكتاب "العلم الجذل" ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي 2009.

أما المراجع التي اعتمدنا عليها، فهي كثيرة ومجّزأة إلى مراجع بالفرنسية وأخرى بالعربية، فالمراجع بالفرنسية منها :

كتاب "الخطاب الفلسفي للحداثة" Le discoures philosophique de la modernité ليورغنهابرماس، jurgen Habermas الصادر عن دار غاليمار Gallimard 1989. وكتاب "لماذا لسنا نيتشويين" Pourquoi nous ne somme pas nietzschéens, Grasset 1991 لألان بوي Alain Boyer وآخرون.

وكتاب أنجيل كريمر مارييتي Angèle Kremer-Marietti " نيتشه أو رهانات المُتخيّل "Nietzsche ou les enjeux de la fiction 2009.

ومن المراجع المترجمة إلى اللغة العربية، من اللغتين الفرنسية والإنجليزية، فمنها تواليا : جينالوجيا المعرفة لميشيل فوكو ترجمة أحمد السطّاتي وعبدالسلام بنعبد العالي دار توبقال للنشر 1988، وكتاب المراقبة والمعاقبة –ولادة السجن- مركز الإنماء القومي 1990. وكتابات محمد أركون التي منها: الفكر الاسلامي نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1990، وكتاب : الفكر الأصولي واستحالة التأصيل –نحو تاريخ آخر للفكر الاسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي 1990. وكتابات إدوارد سعيد منها : الاستشراق المعرفة- السلطة- الانشاء - ترجمة كمال أبوديب، مؤسسة الأبحاث العربية 2003، وكتاب الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، دار الآداب بيروت. أخيرا كتابات " جمال مفرج" منها تخصيصا : المعرفة والقوة- نحو طريقة علمية للهيمنة- منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم 2009، وكتاب : الإرادة والتأويل- تغلغل النيتشوية في الفكر العربي منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم (الجزائر، بيروت) 2009.

أخيرا؛ فإنّنا توصّلنا إلى توزيع المادة المعرفية الخاصة بهذه الأطروحة وفقا للمنهاج الذي نَرْصُفُ مخططه وفقا للرّسم الآتي :

مقدمة، وفيها عرّفنا بالموضوع، موضوع "المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة وامتداداتها في الفكر الفلسفي المعاصر"، وأهميته بالمُقارنة إلى ما يُتداول في ساحة الفكر المعاصر، والإشكالية التي تروم الأطروحة الإجابة عن تساؤلاتها، تَلَتْهاَ الدّراسات السابقة التي فكّرت مُشْكِلة قيمة ومعنى إرادة معرفة الحقيقة وتواصُلها في الفكر الفلسفي المعاصر، أعْقَبَتْها الأسباب التي دفعت إلى اختيار الموضوع بين أسباب ذّاتية وأخرى موضوعية، ثم منهج الدّراسة الذي يتناسب مع طبيعة الموضوع، بعدها بعض الصّعوبات التي واجهت الدراسة، وأخيرا نماذج من المصادر والمراجع المُعتمدة في الدراسة.

الباب الأول: خصّصنا البحث فيه عن : المعرفة وقيمتها عند نيتشه .

اختص الفصل الأول منه بالكلام في "مشكلة الحقيقة بما هي هي مشكلة المعرفة"، وذلك بمناقشة المدخل التاريخي لمشكلة المعرفة والحقيقة، ثم الانتقال إلى منابع هذه المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة، ثم تحولات الأسئلة من معرفة الحقيقة إلى مشلكة الحقيقة بالمعنى الذي بلورها فيه نيتشه، تلاها رصد إرادة الحقيقة من أفلاطون إلى هيجل، وإعادة مَوْضَعَة الأشياء في مكانها الحقيقي؛ أي توجيه الشّغف الانساني من شجرة المعرفة إلى شجرة الحياة، فإلى إرادة القوة بحسبانها المبدأ الأقوى في التأويل والتقييم.

كما اختص الفصل الثاني بالكلام في "وحدة المعرفة والمصلحة"، أردنا من خلاله الوقوف على العناصر الفكرية والأدبية التي كوَّنت استشكال نيتشه للمعرفة، فوجدناها في تأثير الرومانسية الجرمانية وشوبنهور، وأصداء الكشوف الحيوية وتأثير الأخلاقيين الفرنسيين، ثم تطوير المنهجية الجينالوجية في المساءلة والتأويل. لننعطف بعدها على الملمح الآخر للتفكير في المعرفة أي أركان النّظرية المنظورية في المعرفة وعناصرها : العالم كنص وأنماط الحياة تأويلا له، المعرفة بما هي تأويل، الحقيقة باعتبارها قيمة إرادية لا ماهية جوهرية.

ثم طرحنا قيمة العقل للفحص والتَّشريح والأرخنة، لينتهي الفصل عند رصد وتحليل الدلالة الجديدة التي أضحت عليها الحقيقة كإرادة ومملكة، حيث جرى إحلال الحقيقة الفنية أو غرائز الجمال كنماذج لإدراك العالم وتأويله في مقابل النماذج العقلانية النّافية لرحابة الحياة وجماليات الصّيرورة.

ويتناول الباب الثاني "امتدادات المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة في الفكر الفلسفي المعاصر وتجذير المعرفة في السُلطة، وتفرّد الفصل الأول منه بالحديث عن "الارتياب من معرفة الحقيقة في الفكر الغربي المعاصر بين حدود المنظورية أو يورغنهابرماس وتجذير المعرفة في السُلطة أوميشيل فوكو"، سلكنا فيه مسلكا تحليليا مُقارنا، ابتدأنا بمناحي الحضور النيتشوي في الفكر الغربي المعاصر ومسوغات تواجده والاستخدامات التاريخية التي خضع لها النّص النيتشوي، وانتقينا من النَّماذج التي انتهلت من المعجم النَّقدي النيتشوي ما رأيناه فارقا: سيجموند فرويد وقسمة الحياة النَّفسية إلى جزء شعوري وآخر لاشعوري، ثيودور أدورنو والتأثر بنيتشه في: الأصل الإرادي للمعرفة. تأثير الثقافة اليونانية على معقولية العصر الحديث. الفن باعتباره حاميا للحياة. ثم رصدنا اللَّحظة النّيتشوية في الفلسفة الفرنسية المعاصرة باعتبارها لحظة حيوية وفاتنة. واستخرجنا من هذه اللّحظة الشخصيات الفلسفية الآتية: جون فرونسواليوتارباعلانه موت السّرديات الكبرى ووحدة المعرفة والقيمة التداولية لها. أتبعناه بجون بودريار وتحفته الكئيبة: موت الواقع وأفول الحقيقة وإحلال الوهم والخداع كتعبير عن تحول في مفهوم الحقيقة، ثم جيل دولوز واستفادته العيش في الأماكن العالية أو الأقاليم، وإعادة بناء الفلسفة بوصفها إبداعا مفهوميا مُتواصلا يتوافق مع نهار الصّيررة التي تنفر من الثّبات والهوية.

وكان يورغنهابرماس من القومية الفلسفية الألمانية عيّنة على حدود هذه المساءلة الارتيابية من خلال: مدخل إلى قلق الصلة بينه وبين نيتشه، ثم كيف فقدت الحداثة امتيازاتها بدخول نيتشه إلى قولها أي قول الحداثة، بعدها قيمة المعرفة بالإضافة إلى الحياة، من خلال نموذج معرفة المؤرخ التي تكون لها الكلمة العليا فيها للذّات العارفة وليس لأيّة سُلطة تاريخية أخرى، وهذا جميعه يدخل في نسق الانتقال من نظرية المعرفة التقليدية إلى النّظرية المنظورية للانفعالات، التي لم يستسغها هابرماس لأنها لم تواصل فتح مغاليق الوعي التي ابتدأها هيجل، واكتفت بتنزيل معجم علوم الأحياء على المعرفة وملكاتها.

ومن القومية الفلسفية الفرنسية أخذنا "ميشيل فوكو"، كعيّنة على مضاعفة الارتياب من قيمة معرفة الحقيقة والتبرُّم منها، ويتبدّى لنا هذا الإنخراط في الارتيابية النيتشوية من خلال: تجنّب إسقاط المعنى على المعرفة التاريخية والصّيرورة الغائية، وإحلال قوى الصّراع، والإنفصلات مكانها، ثم تطوير المساءلة الجينالوجية في التأويل والتقييم من أجل كتابة التّواريخ الصّامتة والمنسية، وبالتالي مجاوزة حدود الفكر التقليدي، بعدها إماتة النّزعة الإنسانية، وكيف أن صُورة الإنسان الخالدة ليست سوى صورة تاريخية، نشأت تحت تأثير مفاعيل لاعقلانية كالدول والديانات وقد أوشكت على موتها، ثم تفكيك وهم الحِياد المعرفي الذي تتباهى به المعارف والمناهج العلمية وإدراجها في أنساق المؤسّسات التي تُوزّعها وتعبّر عن نفسها من خلالها.

وتفرّد الفصل الثاني بالحديث عن "الارتياب من معرفة الحقيقة في الفكر العربي المعاصر: بين جينيالوجيا العقل الاسلامي أو محمد أركون، والارتيابية المعكوسة أو إدوارد سعيد. رصدنا فيه مواصفات استقبال نيتشه في الفكر العربي مُبكّرا، وراهن دعاة النّهضة والتقدم على استخراج لُباب القوة والحماسة من فلسفته، ثم كيف أضحى الاهتمام به فاقعا وبصورة لافتة، وذلك من خلال جدل القراءة بين عبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا، أو بين الدَّعوة إلى الثَّورة الرُّوحية وبين ارتكاس فلسفة نيتشه وابتعادها عن الواقع، لانغراسها في النّظم الفكرية الرأسمالية. ثم قفّينا بالكلام في راهن الحضور النيتشوي في الفكر العربي المعاصر؛ وانتخبنا النّماذج المُتوالية : طه عبد الرحمن أو نيتشه وتَسَيُّب التأويل الاستعاري، محمد عابد الجابري أو نيتشه مُنْخَرطا في علموية عصره، على حرب أو نيتشه من الحقيقة إلى القراءة .

وبعد هذا الرّصد للصّلات بين نيتشه والفكر العربي المعاصر بعامة؛ انتقلنا إلى التَّحليل والمُقارنة بين الأخذ بهذه الارتيابية إلى أساسات التراث المعرفي الاسلامي مع محمد أركون؛ وبين توجيه سهوم هذه الارتيابية إلى صدر الراّمي نفسه بما أسميناه: الإرتيابية المعكوسة عند إدوارد سعيد تجاه المعرفة الغربية حول الشرق أو الخطاب الاستشراقي، فمحمد أركون تبدّت لنا عناصر الأخذ بها في تطبيقه للمنهجية النّشوئية الجينالوجية من أجل ملاحقة الأصول وإثبات تاريخيتها وتعدُّدها، ثم قراءة الإنتاجية المعرفية التراثية الإسلامية كما لو أنها أنساق نظرية تساند تناحر إرادات القوى، أو البحث عن الرّهانات السياسية خلف العقائد الإيمانية.

إلا أن، فيصل التفرقة بينه وبين إدوارد سعيد؛ أن هذا الأخير قد استفاد من هذه الارتيابية حيال إرادة معرفة الحقيقة التي طوّرها نيتشه، ونوّع من استخداماتها فوكو، استفاد منها في جبهات المواجهة الآتية :

- تأطير المعرفة الاستشراقية ضمن فلسفة الذّاتية؛ بماهي فلسفة تخلّقَ في محاضنها خطاب الاستشراق وبنى مُتخيله عن الآخر، بالارتكاز على ثقافة التَّمركز والطّهرانية والعقلانية-الذّاتية. حيث بدت المعرفة الاستشراقية أنها نتاج لهذه الثقافة التَّمركُزية أكثر من أي شيء آخر. ثم كيف أن المعرفة الاستشراقيةوليدة إرادة قوة ونشاطات سياسية أكثر منها رغبة في الموضوعية أو ادعاءً للعلمية، أخيرا كتابة جينالوجيا المعرفة الإمبريالية بالبحث عن أنسابها وأصولها، ثم الحط من قيمة هذه الأصول أو الذّات الأوروبية في تمثُّلها لآخرها الصّامت، وفوق هذه الاعتبارت جميعا رام إ. سعيد تأسيس الحقيقة لا على الإجراء البرهاني والصّدق النّظري؛ وإنما على التحدّي الحيوي ما دامت الحقيقة في وحدة مع الحياة وتريد الارتفاع والاستقلال والإبداع.

أخيرا خاتمة، استخلصنا فيها نتائج البحث وأجبنا فيها عن إشكالية الأطروحة عنوانها: من ضيق الارتيابية إلى سعة الطُّموح الأنطولوجي

Table de matiéres

الباب الأول

المعرفة و قيمتها عند نيتشه


مُفتتح


الفصل الأول: مشكلة الحقيقة بماهي مشكلة المعرفة


  1.      الحقيقة و المعرفة، مدخل إلىت اريخ المشكلة


  2.      منابع المساءلة الارتيابية لقيمة المعرفة


  3.      من معرفة الحقيقة إلى مشكلة الحقيقة


  4.      مشكلة الحقيقة، من أفلاطون إلى هيجل


  5.      إرادة الحقيقة عند أفلاطون أو الاحتقار الأنطولوجي للمظهر


  6.      امتداد المثالية الأفلاطونية في اللاّهوت المسيحي و أنماط العقلانية الحديثة


  7.      أنماط المعقولية الحديثة،من القِوام الدّيني إلى اليقين العقلاني

    
8. من ماهية الحقيقةإلى إرادة الحقيقة

   
9.  من إرادة الحقيقة إلى إرادة القوة

  
10. من شجرة المعرفة إلى شجرة الحياة 


الفصللثاني: وحدةالمعرفةوالمصلحة


     1.المعرفة و شروط الحياة


     1.1. الرُّومانسية الجرمانية وشوبنهاور


     1. 2. أصداء  الكشوف الحيويةوكسب مساعي الأخلاقيين الفرنسيين


     1. 3. تطوير المنهج الجينيالوجيفي المساءلة و التأويل


     2. الحقيقة المنظورية للمعرفة


     3. أركانا لنّظرية المنظورية للمعرفة


     4. قيمة العقل


     5. من إرادة الحقيقة إلى الحقيقة الفنّية

الباب الثاني

الارتياب من قيمة المعرفة

وامتداداته في الفكر الفلسفي المعاصر


مُفتتح

الفصل الأول: قيمة إرادة المعرفة في الفكر الغربي المعاصر :


بين حُدُود المنظورية و اكتناها لمعرفة-السلطة


1. نيتشهفيالفكرالغربيالمعاصر : مناحيالحضورومُسوّغاتالتّواجد


 1. 1سيجموندفرويدأوالأصلاللاّشعوريللحياةالنفسية


1. 2. نيتشهومدرسةفرانكفورت،نقدثقافةالعقلالقمعيةوحمايةالحياةبالفن


1. 3. جونفرانسواليوتاروجونبودريار: موتالسّردياتالكبرىوأفولالعالمالحقيقي


2. يورغنهابرماس،حُدودالمنظُوريةوإعادةوصلالصّلةبينالمعرفةوالحياة


2. 1. هابرماسونيتشه،مدخلإلىقلقالصّلة


2.2. دخولنيتشهإلىقولالحداثة،الحداثةتفقدامتيازاتها


2. 3.قيمةالمعرفةبالإضافةإلىالحياة،نموذجمعرفةالمؤرّخ


2. 3. مننظريةالمعرفةالتَّقليديةإلىالنّظريةالمنظوريةللانفعلات


3. ميشيلفوكو،الانخراطفيالإشكالالنّيتشويوتجذيرإرادةالمعرفةفيإرادةالقوة


3. 1.فيتجنٌّبإسقاطالمعنىعلىالمعرفةالتاريخية


3. 2. منالجينيالوجياإلىالأركيولوجيا،نحوكتابةالتَّواريخالمُصغّرة


3.3. إماتةالنّزعةالإنسانيةووهمالحِيادالمعرفي

الفصلالثاني :قيمةإرادةالمعرفةفيالفكرالعربيالمعاصر

بينجينيالوجياالعقلالاسلاميوالارتيابيةالمعكوسة


1 .استقبالنيتشهفيالفكرالعربيالمعاصر: استخراجلُبابالقوةوالحماسة


2. تواصلالاهتمامبنيتشهفيالفكرالعربيالمعاصر


2. 1. قيمةآراءنيتشهبينعبدالرحمنبدويوفؤادزكريا


3. راهنالاهتمامبنيتشهفيالفكرالعربيالمعاصر


3. 1. طهعبدالرحمنأونيتشهوتسيُّبالتأويلالاستعاري


3. 2. الجابريأونيتشهمُنخرطافيابستميعصره


3. 3. عليحرب : نيتشهمنالحقيقةإلىالقراءة


4. محمدأركونوالمساءلةالارتيابية،جينيالوجياالعقلالإسلامي


4. 1.منالمنهجياتالتَّقليديةإلىفُتوحاتالعلومالإنسانيةالمعاصرة


4. 2. الانسانوالتّقديس: بيننيتشهوأركون


4. 3. المنهجيةالجينيالوجيةالنُّشوئية : أوملاحقةالأصولمنأجلالتحرُّرمنها


4. 4. المعرفةوالقوة : أوالرّهاناتالسياسيةللعقائدالإيمانية


5. إدواردسعيدوالارتيابيةالمعكوسة،أوتشابكالمعرفةوالقوةفيالخطابالاستشراقي


5. 1. تراجع فلسفةالذّاتيةوإحراجاتالخطابالاستشراقي


5. 2. المعرفةالاستشراقيةوليدةإرادةالقوة


5. 3. المعرفةالاستشراقيةبماهيتمثيل،أوالإمبرياليةوآخرهاالصّامت

خاتمة : منضَيْقالارتيابيةإلىسَعةالطُّموحالكياني (الأنطولوجي(

الفهارس


فهرس المصادروالمراجع


فهرسالموضوعات


فهرس هجائي للأعلام

 

Bibliographie